تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 340 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 340

340 : تفسير الصفحة رقم 340 من القرآن الكريم

** أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرّةً إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُم مّا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ * وَهُوَ الّذِيَ أَحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ إِنّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ
وهذا أيضاً من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه, فإنه يرسل الرياح فتثير سحاباً فيمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها, وهي هامدة يابسة سوادء ممحلة, {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت}. وقوله: {فتصبح الأرض مخضرة} الفاء ههنا للتعقيب, وتعقيب كل شيء بحسبه, كما قال تعالى: {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة} الاَية, وقدثبت في الصحيحين أن بين كل شيئين أربعين يوماً, ومع هذا هو معقب بالفاء, وهكذا ههنا قال {فتصبح الأرض مخضرة} أي خضراء بعد يباسها ومحولها. وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز أنها تصبح عقب المطر خضراء, فالله أعلم.
وقوله: {إن الله لطيف خبير} أي عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر, ولا يخفى عليه خافية, فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به, كما قال لقمان: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} وقال: {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض} وقال تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} وقال: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} ولهذا قال أمية بن أبي الصلت أو زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته:
وقولا له من ينبت الحب في الثرى ؟فيصبح منه البقل يهتز رابياً
ويخرج منه حبه في رؤوسهففي ذاك آيات لمن كان واعياً
وقوله: {له ما في السموات وما في الأرض} أي ملكه جميع الأشياء, وهو غني عما سواه وكل شيء فقير إليه عبد لديه, وقوله: {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض} أي من حيوان وجماد وزروع وثمار, كما قال: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} أي من إحسانه وفضله وامتنانه {والفلك تجري في البحر بأمره} أي بتسخيره وتسييره, أي في البحر العجاج وتلاطم الأمواج تجري الفلك بأهلها بريح طيبة ورفق وتؤدة فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع ومنافع من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر, ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء, كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك مما يحتاجون إليه ويطلبونه ويريدونه {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} أي لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فهلك من فيها, ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه, ولهذا قال: {إن الله بالناس لرؤوف رحيم} أي مع ظلمهم, كما قال في الاَية الأخرى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب}.
وقوله: {وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور} كقوله: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون}. وقوله: {قل الله يحييكم ثم يمييتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه}. وقوله: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} ومعنى الكلام: كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف {وهو الذي أحياكم} أي خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئاً يذكر, فأوجدكم {ثم يميتكم ثم يحييكم} أي يوم القيامة {إن الإنسان لكفور} أي جحود.

** لّكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَىَ رَبّكَ إِنّكَ لَعَلَىَ هُدًى مّسْتَقِيمٍ * وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكاً, قال ابن جرير: يعني لكل أمة نبي منسكاً, قال: وأصل المنسك في كلام العرب هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو شر, قال: ولهذا سميت مناسك الحج بذلك لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها, فإن كان كما قال من أن المراد لكل أمة نبي جعلنا منسكاً, فيكون المراد بقوله فلا ينازعنك في الأمر أي هؤلاء المشركين, وإن كان المراد لكل أمة جعلنا منسكاً جعلاً قدرياً كما قال: {ولكل وجهة هو موليه} ولهذا قال ههنا: {هم ناسكوه} أي فاعلوه, فالضمير ههنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق, أي هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته, فلا تتأثر بمنازعتهم لك ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق, ولهذا قال: {وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم} أي طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود, وهذا كقوله: {ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك}.
وقوله: {وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون}. كقوله: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون}. وقوله: {الله أعلم بما تعملون} تهديد شديد ووعيد أكيد, كقوله: {هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيداً بيني وبينكم} ولهذا قال: {الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون} وهذه كقوله تعالى: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت و لا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب}.الاَية.

** أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ إِنّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ
يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه, وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض, فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء, و لا أصغر من ذلك ولا أكبر, وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها, وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ, كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة, وكان عرشه على الماء» وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله القلم, قال له: اكتب, قال و ماأكتب ؟ قال: اكتب ما هو كائن, فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» وقال ابن أبي حاتم: حدثناأبو زرعة, حدثنا ابن بكير, حدثني عطاء بن دينار, حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام, وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش تبارك وتعالى: اكتب, فقال القلم: وما أكتب ؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم الساعة, فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة, فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض} وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها, وقدرها وكتبها أيضاً, فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه, فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره, وهذا يعصي باختياره, وكتب ذلك عنده وأحاط بكل شيء علماً, وهو سهل عليه يسير لديه, ولهذا قال تعالى: {إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير}.

** وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ * وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذَلِكُمُ النّارُ وَعَدَهَا اللّهُ الّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما جهلوا وكفروا وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً, يعني حجة وبرهاناً, كقوله: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون} ولهذا قال ههنا: {ما لم ينزل به سلطاناً وما ليس لهم به علم} أي ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه, وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة, وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم, ولهذا توعدهم تعالى بقوله: {وما للظالمين من نصير} أي من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العذاب والنكال, ثم قال: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} أي وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله, وأنه لا إله إلا هو, وأن رسله الكرام حق وصدق {يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتن} أي يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن, ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء {قل} أي يا محمد لهؤلاء {أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفرو} أي النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا, وعذاب الاَخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم إن نلتم بزعمكم وإرادتكم وقوله: {وبئس المصير} أي وبئس النار مقيلاً ومنزلاً ومرجعاً وموئلاً ومقاماً {إنها ساءت مستقراً ومقام}.